كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهو هنا يوجه أصحاب المال الذين اختارهم ليكونوا أمناء عليه إلى خير الطرق للتنمية والفلاح. وهي إيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل، والإنفاق بصفة عامة في سبيل الله: {ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون}.
وكان بعضهم يحاول تنمية ماله بإهداء هدايا إلى الموسرين من الناس، كي ترد عليه الهدية مضاعفة! فبين لهم أن هذا ليس الطريق للنماء الحقيقي: {وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله}. هذا ما تذكره الروايات عن المقصود بالآية وإن كان نصها بإطلاقه يشمل جميع الوسائل التي يريد بها أصحابها أن ينموا أموالهم بطريقة ربوية في أي شكل من الأشكال. وبين لهم في الوقت ذاته وسيلة النماء الحقيقية:
{وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون}.
هذه هي الوسيلة المضمونة لمضاعفة المال: إعطاؤه بلا مقابل وبلا انتظار رد ولا عوض من الناس.
إنما هي إرادة وجه الله. أليس هو الله الذي يبسط الرزق ويقدر؟ أليس هو الذي يعطي الناس ويمنع؟ فهو الذي يضاعف إذن للمنفقين ابتغاء وجهه؛ وهو الذي ينقص مال المرابين الذين يبتغون وجوه الناس. ذلك حساب الدنيا، وهناك حساب الآخرة وفيه أضعاف مضاعفة. فهي التجارة الرابحة هنا وهناك!
ومن زاوية الرزق والكسب يعالج قضية الشرك، وآثارها في حياتهم وفي حياة من قبلهم، ويعرض نهاية المشركين من قبل وعاقبتهم التي تشهد بها آثارهم:
{الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين}.
وهو يواجههم بواقع أمرهم وحقائق حالهم التي لا يملكون أن يماروا في أن الله وحده هو موجدها؛ أو التي لا يملكون أن يزعموا أن لآلهتهم المدعاة مشاركة فيها. يواجههم بأن الله هو الذي خلقهم. وأنه هو الذي رزقهم. وأنه هو يميتهم. وأنه هو يحييهم. فأما الخلق فهم يقرون به. وأما الرزق فهم لا يملكون أن يزعموا أن آلهتهم المدعاة ترزقهم شيئًا. وأما الإماتة فلا حجة لهم على غير ما يقرره القرآن فيها. بقي الإحياء وكانوا يمارون في وقوعه. وهو يسوقه إليهم ضمن هذه المسلمات ليقرره في وجدانهم بهذه الوسيلة الفريدة، التي تخاطب فطرتهم من وراء الانحراف الذي أصابهم. وما تملك الفطرة أن تنكر أمر البعث والإعادة.
ثم يسألهم: {هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء} ولا ينتظر جوابًا منهم، فهو سؤال للنفي في صورة التقريع غير محتاج إلى جواب! إنما يعقب عليه بتنزيه الله: {سبحانه وتعالى عما يشركون}.
ثم يكشف لهم عن ارتباط أحوال الحياة وأوضاعها بأعمال الناس وكسبهم؛ وأن فساد قلوب الناس وعقائدهم وأعمالهم يوقع في الأرض الفساد، ويملؤها برًا وبحرًا بهذا الفساد، ويجعله مسيطرًا على أقدارها، غالبًا عليها:
{ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس}.
فظهور الفساد هكذا واستعلاؤه لا يتم عبثًا، ولا يقع مصادفة؛ إنما هو تدبير الله وسنته. {ليذيقهم بعض الذي عملوا} من الشر والفساد، حينما يكتوون بناره، ويتألمون لما يصيبهم منه: {لعلهم يرجعون} فيعزمون على مقاومة الفساد، ويرجعون إلى الله وإلى العمل الصالح وإلى المنهج القويم.
ويحذرهم في نهاية هذه الجولة أن يصيبهم ما أصاب المشركين قبلهم، وهم يعرفون عاقبة الكثيرين منهم، ويرونها في آثارهم حين يسيرون في الأرض، ويمرون بهذه الآثار في الطريق:
{قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين}.
وكانت عاقبتهم ما يرون حين يسيرون في الأرض؛ وهي عاقبة لا تشجع أحدًا على سلوك ذلك الطريق!
وعند هذا المقطع يشير إلى الطريق الآخر الذي لا يضل سالكوه، وإلى الأفق الآخر الذي لا يخيب قاصدوه.
{فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحًا فلأنفسهم يمهدون ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله إنه لا يحب الكافرين}.
والصورة التي يعبر بها عن الاتجاه إلى الدين القيم صورة موحية معبرة عن كمال الاتجاه، وجديته، واستقامته: {فأقم وجهك للدين القيم}. وفيها الاهتمام والانتباه والتطلع، واستشراف الوجهة السامية والأفق العالي والاتجاه السديد.
وقد جاء هذا التوجيه أول مرة في السورة بمناسبة الكلام عن الأهواء المتفرقة والأحزاب المختلفة. أما هنا فيجيء بمناسبة الشركاء، والرزق ومضاعفته، والفساد الناشىء من الشرك، وما يذوقه الناس في الأرض من ظهور الفساد واستعلائه، وعاقبة المشركين في الأرض. يجيء بهذه المناسبة فيبين جزاء الآخرة ونصيب المؤمنين والكافرين فيها؛ ويحذرهم من يوم لا مرد له من الله. يوم يتفرقون فريقين: {من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحًا فلأنفسهم يمهدون}.
ويَمهَد معناه يُمهّد ويُعبّد، ويعد المهد الذي فيه يستريح، ويهيء الطريق أو المضجع المريح. وكلها ظلال تتجمع وتتناسق، لتصور طبيعة العمل الصالح ووظيفته. فالذي يعمل العمل الصالح إنما يمهد لنفسه ويهيء أسباب الراحة في ذات اللحظة التي يقوم فيها بالعمل الصالح لا بعدها. وهذا هو الظل الذي يلقيه التعبير. وذلك: {ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات}. {من فضله}. فما يستحق أحد من بني آدم الجنة بعمله. وما يبلغ مهما عمل أن يشكر الله على جزء من فضله. إنما هو فضل الله ورحمته بالمؤمنين. وكراهيته سبحانه للكافرين: {إنه لا يحب الكافرين}.
بعد ذلك يأخذ معهم في جولة أخرى تكشف عن بعض آيات الله، وما فيها من فضل الله ورحمته، فيما يهبهم من رزق وهدى ينزل عليهم، فيعرفون بعضه وينكرون بعضه. ثم لا يشكرون ولا يهتدون.
{ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ولقد أرسلنا من قبلك رسلًا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقًا علينا نصر المؤمنين الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابًا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفًا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير ولئن أرسلنا ريحًا فرأوه مصفرًا لظلوا من بعده يكفرون}.
إنه يجمع في هذه الآيات بين إرسال الرياح مبشرات، وإرسال الرسل بالبينات، ونصر المؤمنين بالرسل، وإنزال المطر المحيي، وإحياء الموتى وبعثهم.
وهو جمع له مغزاه إنها كلها من رحمة الله، وكلها تتبع سنة الله. وبين نظام الكون، ورسالات الرسل بالهدى، ونصر المؤمنين، صلة وثيقة. وكلها من آيات الله. ومن نعمته ورحمته، وبها تتعلق حياتهم، وهي مرتبطة كلها بنظام الكون الأصيل.
{ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات}. تبشر بالمطر. وهم يعرفون الريح الممطرة بالخبرة والتجربة فيستبشرون بها. {وليذيقكم من رحمته} بآثار هذه البشرى من الخصب والنماء. {ولتجري الفلك بأمره} سواء بدفع الرياح لها؛ أو بتكوين الأنهار من الأمطار فتجري السفن فيها. وهي تجري مع هذا بأمر الله. ووفق سنته التي فطر عليها الكون؛ وتقديره الذي أودع كل شيء خاصيته ووظيفته، وجعل من شأن هذا أن تخف الفلك على سطح الماء فتسير، وأن تدفعها الرياح فتجري مع التيار وضد التيار. وكل شيء عنده بمقدار. {ولتبتغوا من فضله} في الرحلات التجارية، وفي الزرع والحصاد، وفي الأخذ والعطاء. وكله من فضل الله الذي خلق كل شيء فقدره تقديرًا. {ولعلكم تشكرون} على نعمة الله في هذا كله. وهذا توجيه إلى ما ينبغي أن يقابل به العباد نعمة الله الوهاب.
ومثل إرسال الرياح مبشرات إرسال الرسل بالبينات:
{ولقد أرسلنا من قبلك رسلًا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات}.
ولكن الناس لم يستقبلوا رحمة الله هذه وهي أجل وأعظم استقبالهم للرياح المبشرات. ولا انتفعوا بها وهي أنفع وأدوم انتفاعهم بالمطر والماء! ووقفوا تجاه الرسل فريقين: مجرمين لا يؤمنون ولا يتدبرون ولا يكفون عن إيذاء الرسل والصد عن سبيل الله. ومؤمنين يدركون آيات الله، ويشكرون رحمته، ويثقون بوعده، ويحتملون من المجرمين ما يحتملون. ثم كانت العاقبة التي تتفق مع عدل الله ووعده الوثيق.
{فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقًا علينا نصر المؤمنين}.
وسبحان الذي أوجب على نفسه نصر المؤمنين؛ وجعله لهم حقًا، فضلًا وكرمًا. وأكده لهم في هذه الصيغة الجازمة التي لا تحتمل شكًا ولا ريبًا. وكيف والقائل هو الله القوي العزيز الجبار المتكبر، القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير. يقولها سبحانه معبرة عن إرادته التي لا ترد، وسنته التي لا تتخلف، وناموسه الذي يحكم الوجود.
وقد يبطئ هذا النصر أحيانًا في تقدير البشر لأنهم يحسبون الأمور بغير حساب الله، ويقدرون الأحوال لا كما يقدرها الله. والله هو الحكيم الخبير. يصدق وعده في الوقت الذي يريده ويعلمه، وفق مشيئته وسنته. وقد تتكشف حكمة توقيته وتقديره للبشر وقد لا تتكشف. ولكن إرادته هي الخير وتوقيته هو الصحيح. ووعده القاطع واقع عن يقين، يرتقبه الصابرون واثقين مطمئنين.
بعد ذلك يمضي السياق يقرر أن الله هو الذي يرسل الرياح، وينزل المطر، ويحيي الأرض بعد موتها، وكذلك يحيي الموتى فيبعثون.
سنة واحدة، وطريقة واحدة، وحلقات في سلسلة الناموس الكبير:
{الله الذي يرسل الرياح}. وفق ناموسه في تكوين هذا الكون وتنظيمه وتصريفه. {فتثير سحابًا}. بما تحمله من بخار الماء المتصاعد من كتلة الماء في الأرض. {فيبسطه في السماء}. ويفرشه ويمده. {ويجعله كسفًا}. بتجميعه وتكثيفه وتراكمه بعضه فوق بعض، أو يصطدم بعضه ببعض، أو تنبعث شرارة كهربائية بين طبقة منه وطبقة، أو كسفة منه وكسفة. {فترى الودق يخرج من خلاله} وهوالمطر يتساقط من خلال السحاب. {فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون}. ولا يعرف هذا الاستبشار على حقيقته كما يعرفه الذين يعيشون مباشرة على المطر. والعرب أعرف الناس بهذه الإشارة. وحياتهم كلها تقوم على ماء السماء، وقد تضمنت ذكره أشعارهم وأخبارهم في لهفة وحب وإعزاز!
{وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين}.
وهذا تقرير لحالهم قبل أن ينزل عليهم المطر: حولهم من اليأس والقنوط والهمود. ثم هم يستبشرون. {فانظر إلى آثار رحمة الله}.! انظر إليها في النفوس المستبشرة بعد القنوط، وفي الأرض المستبشرة بعد الهمود؛ وفي الحياة التي تدب في التربة وتدب في القلوب.
{فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها}. إنها حقيقة واقعة منظورة، لا تحتاج إلى أكثر من النظر والتدبر. ومن ثم يتخذها برهانًا على قضية البعث والإحياء في الآخرة. على طريقة الجدل القرآني، الذي يتخذ من مشاهد الكون المنظورة، وواقع الحياة المشهودة، مادته وبرهانه؛ ويجعل من ساحة الكون العريض مجاله وميدانه:
{إن ذلك لمحيي الموتى}. {وهو على كل شيء قدير}.
وهذه آثار رحمة الله في الأرض تنطق بصدق هذا الوعد وتؤكد هذا المصير.
وبعد تقرير هذه الحقيقة يمضي في تصوير حال القوم الذين يستبشرون بالرياح المحملة بالماء؛ ويستروحون بآثار رحمة الله عند نزوله من السماء. يمضي في تصوير حالهم لو كانت الريح التي رأوها مصفرة بما تحمل من رمل وتراب لا من ماء وسحاب وهي الريح المهلكة للزرع والضرع أو التي يصفر منها الزرع فيصير حطامًا:
{ولئن أرسلنا ريحًا فرأوه مصفرًا لظلوا من بعده يكفرون}.
يكفرون سخطًا ويأسا، بدلًا من أن يستسلموا لقضاء الله، ويتوجهوا إليه بالضراعة ليرفع عنهم البلاء. وهي حال من لا يؤمن بقدر الله، ولا يهتدي ببصيرته إلى حكمة الله في تدبيره، ولا يرى من وراء الأحداث يد الله التي تنسق هذا الكون كله؛ وتقدر كل أمر وكل حادث. وفق ذلك التنسيق الشامل للوجود المترابط الأجزاء.
وعند هذا الحد من تصوير تقلبات البشر وفق أهوائهم، وعدم انتفاعهم بآيات الله التي يرونها ماثلة في الكون من حولهم؛ وعدم إدراكهم لحكمة الله من وراء ما يشهدونه من وقائع وأحداث. عند هذا يتوجه بالخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعزيه عن إخفاق جهوده في هداية الكثير منهم؛ ويرد هذا إلى طبيعتهم التي لا حيلة له فيها، وانطماس بصيرتهم وعماها:
{فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون}.
وهو يصورهم موتى ولا حياة فيهم، صمًا لا سمع لهم، عميًا لا يهتدون إلى طريق. والذي ينفصل حسه عن الوجود فلا يدرك نواميسه وسننه ميت لا حياة فيه. إنما هي حياة حيوانية، بل أضل وأقل، فالحيوان مهدي بفطرته التي قلما تخونه! والذي لا يستجيب لما يسمع من آيات الله ذات السلطان النافذ في القلوب أصم ولو كانت له أذنان تسمعان ذبذبة الأصوات! والذي لا يبصر آيات الله المبثوثة في صفحات الوجود أعمى ولو كانت له عينان كالحيوان!
{إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون}.
وهؤلاء هم الذين يسمعون الدعوة، لأن قلوبهم حية، وبصائرهم مفتوحة، وإدراكهم سليم. فهم يسمعون فيسلمون. ولا تزيد الدعوة على أن تنبه فطرتهم فتستجيب.
بعد ذلك يعود السياق ليجول بهم جولة جديدة، لا في مشاهد الكون من حولهم، ولكن في ذوات أنفسهم، وفي أطوار نشأتهم على هذه الأرض؛ ويمتد بالجولة إلى نهايتها هنالك في الحياة الأخرى. في ترابط بين الحياتين وثيق:
{الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفًا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون}.
إنها جولة مديدة، يرون أوائلها في مشهود حياتهم؛ ويرون أواخرها مصورة تصويرًا مؤثرًا كأنها حاضرة أمامهم. وهي جولة موحية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
{الله الذي خلقكم من ضعف}. ولم يقل خلقكم ضعافًا أو في حالة ضعف؛ إنما قال: {خلقكم من ضعف} كأن الضعف مادتهم الأولى التي صيغ منا كيانهم. والضعف الذي تشير الآية إليه ذو معان ومظاهر شتى في تكوين هذا الإنسان.
إنه ضعف البنية الجسدية الممثل في تلك الخلية الصغيرة الدقيقة التي ينشأ منها الجنين. ثم في الجنين وأطواره وهو فيها كلها واهن ضعيف. ثم في الطفل والصبي حتى يصل إلى سن الفتوة وضلاعة التكوين.
ثم هو ضعف المادة التي ذرأ منها الإنسان. الطين. الذي لولا نفخة من روح الله لظل في صورته المادية أو في صورته الحيوانية، وهي بالقياس إلى الخلقة الإنسانية ضعيفة ضعيفة.
ثم هو ضعف الكيان النفسي أمام النوازع والدفعات، والميول والشهوات، التي لولا النفخة العلوية وما خلقت في تلك البنية من عزائم واستعدادات، لكان هذا الكائن أضعف من الحيوان المحكوم بالإلهام.